#معنى كلمة الجن
إن مادة (ج ن ن) في اللغة العربية تتضمن معنى الستر والاستتار. تقول المعاجم اللغوية:
جَنَّ الشيءَ يجُنُّه جَنّاً: ستره، وكل شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك.
جَنَّ الليلُ: أظلم فستر المرئيات.
جَنَّه الليلُ جَنًّا وجنونا.
وجَنَّ عليه يجُن وأجَنَّه: ستره.
جَنَّ الجنينُ في الرحم، استتر.
جِنُّ الليلِ وجُنونه وجنانه: شدة ظلمته، وقيل اختلاط ظلامه لأن كل ذلك ساتر.
والجَنَن: القبر والكفن لأنه يستر جثة الميت.
والجَنان: القلب لاستتاره في الصدر، أو الروح لأنها مستورة في الجسم.
والمجن: الترس والوشاح والحياء .. لأنها تستر من يستخدمها.
والجُنَّة: ما واراك من السلاح؛ السترة والوقاية.
وجِنُّ الناس: معظمهم .. لأن الداخل فيهم يستتر بهم.
وجَنان الناس جماعتهم وسوادهم، وقيل دهماؤهم.
وقيل-الجِن: ولد الجان .. وهم الجِنة.
والجن خلاف الإنس.
والجِنَّة الجنون، وطائف الجِن.
والجِنَّة: طائفة من الجن.
والجَان هو الجن أو أبو الجن، اسم جمع.
والجن هم الملائكة .. قال الأعشى يذكر سليمان - عليه السلام - ?:
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الملائِكَةِ تِسْعَةً ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أَجْر
وقوله جن الملائكة أي الملائكة الجن يعني المستترة.
فكل ما استَتَر أو خَفِي أو نأَى فهو جِنّ .. وأيضا كل ما أَخْفَى أو سَبَرَ أو غَطَّى أو غَلَبَ على غيره فهو جن. فمثلا:
جِنُّ الشباب أوَّله، وجدّته ونشاطه .. لأنها الصفات الغالبة عليه. وجِنُّ كل شيء أول شداته. وجِنُّ المرح كذلك. يقال: خذ الأمر بجِنِّه أي حدثانه.
وجِنَّ النبت: زهره ونوْره .. لأنه يجذب الأنظار إليه فيكون المظهر الغالب على النبات، فكأنه
يستره. وجُنَّ النبتُ جنونا غلُظ واكتهل. وجُنَّت الأرض جاءت بشيء معجب، وإذا أعتم نبتها. وجُنَّ الذباب: كثر صوته وترنمه.
وجنون النبت طوله والتفافه، وجنون السنام تموكه وطوله. والجَنَّة الحديقة ذات الشجر والبستان .. لأن أشجارها تستر الأرض.
والجان الحية .. لسرعة اختفائها أو لاستتارها عادة.
فالتميز والشدة والعنفوان جنون.
ولقد أطلق الناس في زمن الجهالة الأولى اسم (الجن) على كائنات وهمية زعموا أنها موجودةٌ في الأماكن النائية عن العمران، وحسبوا أن ما تحدثه الرياحُ من زمجرة وعويل هو من أصواتها، وتوهموا أن ما يتراءى لعيونهم المجهدة الخائفة هو من أشباحها. ولقد علمنا أن اللغة العربية تستخدم مادة (ج ن ن) للتعبير عن كل ما من شأنه أن يستُر أو يستتر أو يجذب الأنظار (أو بلغة السينما: يسرق الكاميرا). وهكذا حُق للقرآن أن يطلق وصف الجن على تلكم الآلهة: لأنها وهم خيالي خفي عن عيون المشركين بل وعن الوجود كلية، ذلك دلالة على مدى ما في الإشراك بالله من زيغ وضلال وبطلان. لقد أطلق البدائيون اسم الجن على خيالات زعموا وجودها بغير علم ولا سلطان ولا تحقق، وهكذا فعل الجاهليون إذ زعموا أن في السماء أو في الأرض أبناء وبنات نسبوها إلى الخالق عز وجل .. نسبوها إليه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير!! فهي كائنات جديرة بوصف (الجن) حقا وصدقا. إن الآية القرآنية تعني بقول {شُرَكَآءَ الجِنَّ} .. أنهم شركاءٌ من صنع الجهل ونسج الخيال وتجسيد الأوهام.
وتعالى الله أن يكونَ له من تلك الأباطيل المنتحلة شريك، فإن مظاهر قدرته وعظمته، ودلائل جلاله وكماله تملأ الكون كله. تعلن أنه السبوحُ القدوس .. المنزهُ عن أي نقص. المتصفُ بكل حسن. إنه تبارك وتعالى غيبٌ لا تدركه الأبصار، ولكنه مشهودٌ للعقل .. منظورٌ بالبصيرة .. يُرى في آياته، ويُسمع في مخلوقاته. أما تلك الشركاءُ المزعومة فما أعجزها وما أقبحها!! ألُوهيتها لا يقبلها عقل سليم، ولا يشهد لها واقع. إن الله هو الإله الحق .. ومع أنه حقا كما قال:
{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام: 104)
فقد تحدث إلى خلقه، وبيَّن لهم طريقَ الهداية والرقي، بما يشهد له أنه: الحيُ القيوم .. الخالق القدير .. اللطيف الخبير. وشتان ما بين الغيب والوهم. فالغيب موجود فعلا وإن خفي عن الحواس الجسدية، لأنه إنما يدرك بالملكات المناسبة المؤهلة لإدراكه .. الملكات الروحية من فكر وقلب. أما الوهم فهو عدم .. يخترعه الخيال السقيم .. في غيبة العقل السليم.
وتمضى آيات سورة (الأنعام) تلومُ أولئك الذين ينصرفون عن آيات الله، وينساقون إلى الشرك .. فيعبدون آلهةً ليس لها حضورٌ في عالم الواقع، وما هي إلا خيالات في أذهانهم المشوَّشة، يصرون عليها ويضللُ بعضهم بعضا بقول مُزخرفٍ ولكنه زورٌ وباطل، يقاومون به دعوات الإصلاح والهداية التي يأتي بها أنبياء الرحمن. تقول الآية:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ. فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 113)
وكلمةُ (شياطين) جمعُ شيطان من مادة (ش ط ن)، وتعني البُعد، يقال شطنت الدار: بعدت، وشطن عنه: خالفه عن قصده ووجهته. فالمؤثِّر الذي يُبعد الإنسان عن الحق والخير، وينأَى به عن الهدى والصواب يُسمّى شيطانا. والذي يسعى ليغُيِّر وجهة المرء من طريق صالحٍ إلى طريق فاسد أو أقلِّ صلاحا هو شيطان. ومثلُ هذا المؤثر المضلل قد يأتي الإنسان من الخارج أو ينبعُ من داخله. فشيطان الخارج قد يتمثل في دعوة من شخص فاسد، أو إغواء من فاسق، أو تزيين من ماكر. وقد يكون شيطانُ الباطن كامنا في شهوة أو عاطفة أو غريزة أو رغبة أو عقيدة أو ظنٍّ أو حاسةً أو فكرة أو خاطر أو نحو ذلك.
وإذا كان المؤثر المحرِّضُ بشراً سُمي (شيطان الإنس)، وإذا كان المؤثر خفِيًّا في داخل الإنسان سُمي (شيطان الجن). والشيطان الذي يقف في طريق دعوة الأنبياء إما أن يكون شخصية كبيرة .. أو بتعبير العصر: شخصيةٍ قيادية .. فإنه يُدعى في التعبير القرآني (شيطان الجن) .. ذلك لأن هؤلاء الكبراء يتصفون عادة بالكِبْر الذي يجعلهم بمنأى عن عامة الناس. أو يكون مناهضو الأنبياء من عامة الناس .. أو الجمهور بتعبير اليوم .. فيسمّى (شيطان الإنس). فلفظ (شيطان) اسمٌ وصْفي .. وليس عَلَمًا على أحد بعينه. قد يكون الشيء شيطانا في موقف، ولا يكون شيطانا في موقف غيره. فشعور الجوع مثلا يدفعُ المرء إلى طلب الطعام .. وهذا عملٌ مشروع، فإذا دفع الإنسان إلى تناول طعام محرّم أو ضارٍّ بصحته كان الجوعُ أو طلبُ الطعام في هذه الحالة شيطانا. وكذلك التفكير في شئون الحياة وأمور العمل واجبٌ على كل إنسان، ولكن إذا
شغله ذلك عن الانتباه في صلاته مثلا كان شيطانا. وكأن الآية الكريمة تبين أن المشركين إذ يتبعون سدنة الأصنام وكهنة المعابد .. ويعبدون تلك الآلهة الباطلة، يكونون قد انشغلوا عن دعوة الحق التي أتاهم بها نبيهم من عند الله تعالى، وهم بتصرفهم هذا المتسم بالحمق يبتعدون عن الصراط السوي. وجدير بهم أن يُسَمَّوْا (شياطين الإنس) .. فكلهم مشارك في الفساد، يُغرى بعضهم بعضا بباطل من الأماني التي لن تجديهم نفعا، والله تعالى قادر على أن يزيحهم من طريق الدعوة، ولكن اقتضت مشيئته أن يكون للبشر حريةٌ وإرادة .. يختار بها العبادة عن رضىً واقتناع، وأن يعصي أو يكفر برغبته. والجزاء يأتي بعد فرصة الاختيار والتفكير والتجربة. ويكون الارتقاء والنعيم لمن أحسن الاختيار، والحسرةُ والعذاب الأليم لمن عطّل ملكاته وعقله فأساء الاختيار.
أما موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الشياطين جميعا فيتلخص في أمر الله تعالى {ذَرْهُمْ} أي دعهم ولا شأن لك بهم بعد التبليغ. وإذا كانت مشيئة الله أن يتركهم أحرارا يختارون الإيمان أو الكفر فليس للنبي أو غيره أن يتجاوز حد التبليغ.
لقد حكى القرآن عن كثير مما جرى بين الأنبياء .. ومنهم المصطفى صلوات الله عليهم جميعا .. وبين أقوامهم، وأوضح أن المعارضة لمنهج الله والمقاومة لدعوة الأنبياء كانت في كل مرة تأتى أول ما تأتي من جانب {الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}. هؤلاء غالبا ما يجدون في أنفسهم من جموح الغرور ما يدعوهم للاستكبار والإباء والنفور من قبول النصح. إنهم أصحاب السلطة والجاه والمال .. وهم المنتفعون قبل غيرهم من غلبة الجهل وانتشار الفساد .. حيث ينعمون معاً بعائدات المنصب ومكاسب الجاه. وهم القادرون - بسبب مراكزهم القيادية وسلطانهم الديني - على أن يزخرفوا القول لضعاف النفوس وقليلي العلم من أتباعهم .. ليسيروا خلفهم في معارضة الدعوات الإصلاحية؛ ويبذلون في سبيل ذلك كل ما في وسعهم من قوًى مادية، وما تفرزه نفوسهم الجشعة من أباطيل وافتراءات.
التاريخ لا ينسى كهنةَ اليهود الذين كذّبوا عيسى - عليه السلام -، ورموه وأمه الصديقة بكل فرية وإفك. ولا ينسى زعماءَ قريش من أمثال أبي لهب وأُبَيّ بن خلف .. الذين اتهموا الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - بالكذب والجنون والسحر. وفي المدينة .. وقف صاحب الملك الضائع والزعامة المفقودة .. شيخ المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وراء
المؤامرات والفتنة، يحرض العامة على محاربة النبي وافتراء الكذب عليه، والتطاول على شرفه الرفيع بالزور والبهتان.
الآية القرآنية تتناول هذا النوع من البشر .. ووصفتهم بأنهم شياطين، وصنَّفتهم صنفين: دعاة الفساد وزعماء الفتنة وهم “شياطين الجن”، وجهلة العامة ممن يمشون مغمضين خلف كلِّ زاعق وناعق .. وهم “شياطين الإنس”. هذه عادة البشر في القديم والحديث .. كل دعوة صالحة يقف لها شياطين الجن والإنس بالمرصاد .. والله من ورائهم محيط يحصي عليهم فعالهم .. ويفسِد عليهم مكرهم.
ويلاحظ في الآيتين السابقتين أن القرآن الكريم استعمل كلمة (جن) في معنيين مختلفين .. ولكنهما يحملان ظلالا لما تدل عليه مادة (ج ن ن) من الخفاء أو الإخفاء .. كما هو وارد في قواميس اللغة. والقرآن الكريم نزل على العرب بلغتهم، بيد أنه يتميز بأسلوب خاص، يجعلُ له مبنًى وجرْسًا فريدا .. أكسبه تلك الخصائص البلاغية التي عرَفها له العرب، وسلموا له بأنه القمة في البلاغة وجمال الصياغة. ومن سمات الأسلوب القرآني أنه يستعمل ألفاظا عربية ذات دلالات معينة، فيسبِغ عليها استعمالات حديثة اصطلاحية .. ويكسبها معانٍ فرآنيةً إسلامية خاصة .. ومع ذلك يبقى لها بعض دلالتها الأصلية وتعكس ظلالها.
ولنتأمل مثلا كلمة (الصلاة)، فهي كلمةً عربية تعني التوجه بالدعاء والمناجاة إلى الإله المعبود. ولقد استعملها لقرآن المجيد بهذا المعنى أحيانا كما في قوله تعالى:
(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ((الأعلى: 15 - 16)
وسورة الأعلى من أول ما نزل من القرآن، وكلمة (صلّى) تعني هنا: دعا ربَّه وتوجه إليه كلما تذكَّر صفات الله تعالى.
واستخدمها القرآن بمعنى الدعاء كما في قوله تعالى:
{ ... وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة: 103)
ولمَّا شرع الله فريضةً تعبدية تشتمل على ركوع وسجود ودعاء وتسبيح وتكبير .. سُمِّيت في القرآن باسم (الصلاة). يقول القرآن:
{يَآ أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا في الأَرْضِ ... } (الجمعة: 10)
فالصلاة هنا هي الصلاة الاصطلاحية بشروطها ومواقيتها المحددة.
ولما كانت نظرةُ الرضا من الله العلي الكبير ترفع منزلةَ العبد وتُقرّبُه من رحمة الله وإحساناته، فكانت بذلك بمثابة الصلاة المقبولة من العبد الصالح .. أطلق القرآن عليها اسم (الصلاة) في قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ ... } (الأحزاب: 44)
والملائكة تحمل البشرى للمؤمنين فتُطمئن قلوبَهم، وتشرح صدورهم، وتبشرهم بقربهم من الله تعالى .. لذا ذكرت الآية السابقة فعل الملائكة هذا باسم (الصلاة)، عطفًا على ما قبلها. ولا يليق بعاقل أن يتصور صلاة الله تعالى على أنها دعاء للمؤمنين، أو أن صلاة الملائكة ركوع وسجود كما يفعل البشر. ولو دار بذهن أحد شيء من ذلك لوقع أمور لا تجوز في حق الله تعالى، ولا تصح بالنسبة للملائكة، ولأفسد على نفسه فهْمَ معنى الآية القرآنية، وضيَّع فرصة الانتفاع بها.
وهناك الكثير من الكلمات العربية التي استعملها القرآن لدلالات خاصة، ولم يُرِد تماما المعنى الأصلي الذي استعمله العرب الجاهليون؛ ولكن ظلال المعاني لا تزال تشع في الاستعمال القرآن الجديد. من هذه الكلمات: الساعة، القيامة، البعث، الأُولى، الآخرة، الحياة، الموت، الزكاة، الهجرة، المعصية، الشهادة، الصدقة .. وغيرها كثير.
ولفظ (الجن) من الكلمات التي وردت في القرآن الكريم مرات عديدة، لتؤدي من المعاني ما يحمل ظلالا من مادة الكلمة، ولكنها لا تتفق مع المفهوم الخرافي الذي شاع بين المتخلفين من أهل البادية ومن أخذ عنهم.
ولقد رأينا من الآيات السابقة في سورة الأنعام كيف أن كلمة (الجن) تعني الآلهة الخيالية المزعومة والمتوَهمة، وتعني أيضا فريقا من البشر المتميز بموقعه الخاص بين قومه.
ونوالي النظر في الآيات القرآنية لنتعرف على استعمالات الكلمة في المواقف والمناسبات المختلفة ..
التصنيف :
مقالات عقائدية