الصدق توحيد خالص وعبادة مستمرة والكذب شرك وعبادة أوثان
عموما، لا يكذب الإنسان إلا لجلب منفعة أو لدرء مضرة. والله تعالى يعلن أن حقيقة العبودية والوحدانية إنما هي أنه لا إله إلا هو؛ أي لا مطلوب ولا مقصود ولا معبود ولا محبوب إلا هو، وهو الذي لا يصيب الإنسان خيرا إلا بأمره ولا يصيبه سوء إلا بإذنه. فحصول المنافع ودفع الأضرار هو عمل الله تعالى وحده. وعندما يدرك الإنسان هذه الحقيقة يكون قد عرف حقيقة العبودية والتوحيد. فالذي يكذب إنما يترك الله تعالى ويتخذ كذبته في كل مرة إلها من دونه لجلب المنافع أو لدفع المضرات، ولهذا شدد الإسلام على الصدق وجعل الكذب كعبادة الأوثان وفقا لهذا الاعتبار، إذ يقول تعالى:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج 31)
ومعلوم أن حرف العطف الواو يعطف شيئين في حكم واحد، وكأن الله تعالى يقول إن واجبكم اجتناب هذين الأمرين لأن حكمهما واحد؛ أي أن الكذب وقول الزور إنما هو رجس كرجس عبادة الأوثان، وهذه نكتة عميقة يقدمها القرآن الكريم ويتفرد فيها. فالقرآن لم ينه عن الكذب فقط، بل بيَّن بأنه شرك في الحقيقة!
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدق هو طريق الجنة، إذ جاء في الحديث:
{عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا } (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب)
وليس عجيبا أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان سيصل إلى الجنة بالصدق وحده، وسيصل إلى النار باجتناب الصدق والوقوع في رجس الكذب؛ وهذا لأن طريق الجنة هي طريق العبودية والتوحيد الخالص لله تعالى، وطريق النار إنما هي الانحراف عن هذه الطريق.
فلو أدرك الإنسان أهمية الصدق، وكيف يشدد عليها الإسلام، فإنه يكون في عبودية دائمة وفي توحيد خالص. فكلما صادفه أمر رأى أن من مصلحته أن يكذب فيه تذكَّر الله تعالى وطلب منه المعونة ولجأ إليه، وبهذا يكون عابدا مخلصا بمجرد اتخاذه القرار بالصدق في الموقف العصب، ويكون موحدا قد كسر هذا الوثن الذي يدعوه ليلجأ إليه عسى أن يجلب له منفعة أو يمنع عنه مضرة. فهل هناك أعظم من هذا؟ وألا يستطيع الإنسان أن يكون في كل تعاملاته في حياته عابدا ومقيما لتوحيد الله في قلبه بمجرد عزمه على الصدق واجتناب الكذب؟
هذه وصفة سهلة، ولكن الالتزام بها صعب، ويحتاج أن يرتِّب الإنسان حياته بحيث لا يكون مضطرا للكذب. فمن يقرر أن يلتزم بالصدق عليه أن يعقد العزم ويبدأ بتنظيف حياته من رجس ونجاسة الكذب، بأن يتخلص من كل الأعمال أو المواقف التي قد تستدعي أن يكذب لسترها. وعليه أن يسعى لتحري الصدق في القول والعمل في كل صغيرة وكبيرة. فإذا وفقه الله تعالى لذلك فإنه سيعيش حياة طاهرة لا يشعر فيها بثقل شيء على قلبه، وسيحظى برضا الله تعالى، وسيوفق لكل خير وبر. وهذا ما أكد عليه حديث النبي من أن تحري الصدق سيؤدي إلى البر وسيجعل الإنسان صديقا يكون مآله الأخير الجنة؛ والتي ليست هي إلا الطمأنينة في الدنيا والفوز والرضا والسعادة في الآخرة. ولكن الالتزام صعب كما قلنا، ويحتاج في الحقيقة إلى معونة إلهية دائمة. فإذا قرر الإنسان وعقد العزم، فإنه يجب ألا يغفل عن طلب المعونة من الله تعالى ليبقى صادقا حتى يكتب عند الله صديقا، وهذا اللجوء الدائم إلى الله تعالى يؤكد على أن الصدق هو طريق عبودية وتوحيد دائم ومستمر.
إن ثمرة الصدق المثلى في هذه الحياة الدنيا هو أن الصادق سيكون صديقا مصدقا للصادقين. فالصادق سيعرف صدق الصادق بصدقه هو، ولن يسيء الظن بالصادقين مطلقا. والله تعالى جعل الصدق هو طريق معرفة أصدق الصادقين من بني البشر الذين هم الأنبياء. فالصادق سيعرفهم وسيصدقهم وسينال ثمرات الإيمان، بينما الكذاب لن يعرفهم. والواقع أن الله تعالى جعل الصدق وحده –وليس الذكاء والحذاقة العقلية- طريق معرفة الأنبياء، لأنه يريد أن يجمع الصادقين ويكافئهم على صدقهم، لا الحاذقين والأذكياء على ذكائهم. فالذكاء والحذاقة موهبة ربانية لا تستوجب ثوابا، بينما يثاب من يستحق، واختيار الصدق وتحريه إنما هو لب العبودية والتوحيد، وطريق التطهير الدائم الذي لا بد للصالحين منه، لكي يجددوا حبهم لله تعالى وتوجههم له في كل لحظة وآن.
أقول أخيرا، مقارنة بين الإسلام وغيره، نجد أن بولس مثلا يقول بأن الكذب لو كان للخير ولزيادة مجد فلماذا يمكن أن يعد خطيئة؟ إذ جاء في إحدى رسائله:
{7فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟} (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ 3 : 7)
فما حقيقة هذا الإله الذي يمكن أن يزداد مجده بالكذب؟
أما في الإسلام، فإن أسوأ الكذبات هي ما كذبها البعض ظانين أنهم ينصرون بها الدين، وقد رأينا من هؤلاء الكثير. فهؤلاء لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا التوحيد، ولا يختلفون عن بولس. لقد شدد القرآن الكريم على أننا يجب أن نصدق ونعدل مهما كانت النتيجة، حتى ولو كانت ظاهريا ستجلب الضرر علينا وعلى أقاربنا أو على الضعفاء، ولو التزمنا بذلك فإن الله تعالى سيصلح هذه الأمور. فما أجمل ما قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (النساء 136)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (المائدة 9)
التصنيف :
مقالات عقائدية