عاجل

هل الدين من أجل الانسان أم الانسان من اجل الدين

الإنسان من أجل الدين أم الدين من أجل الإنسان؟

استمعت لجزء من عظة لأحد المبشرين المسيحيين، يقول فيها إن يسوع قد قلب الموازين، وجعل الدين من أجل الإنسان وليس الإنسان أجل الدين!

ولا أدري من أين استنتج أنه كان في السابق -وطبعا لاحقا أيضا في الإسلام- أن الإنسان كان يوما من أجل الدين؟ ناهيك عن استنتاجه أن يسوع حسب فهمه قد جعل الدين من أجل الإنسان!

نجد في القرآن الكريم أن الدين عندما نزل لأول مرة كانت أول تعاليمه تستهدف أن يتحقق له الأمان والراحة والسعادة وتحقيق المطالب الأساسية لعيشه. فالله تعالى يقول لآدم:

{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (119) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى } (طه 119-120)

أي الهدف هو توفير الطعام والشراب والكسوة والمسكن، وبعدها يمكن أن يفكر الإنسان فيما هو أسمى من مجرد تحقيق هذه المطالب الأساسية، والتي في النهاية إنما هي فروع لهذه المطالب الأساسية. ولكن إذا فشل دين في تحقيق هذه المطالب، فقد خرج عن الهدف من الدين أصلا. لذلك نجد أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قد سنَّ لأول مرة في التاريخ نظام أن على الدولة توفير الطعام والشراب والمسكن والملبس لجميع الناس، الغني منهم والفقير. وتضمَّن الإسلام شريعة تحتوي فروضا وسننا لتوفير هذه المطالب واعتبارها جزءا من العبادات على المستوى الفردي. ثم ترقَّى الإسلام في هذا، وطالب المؤمن أن يصل في حسنته وبرِّه إلى مرتبة "إيتاء ذي القربى" أي أن يعامل الناس جميعا ويواسيهم وكأنهم من ذوي القربى، وأن يصل إلى الدرجة الأسمى من إيتاء ذي القربى، والتي تماثل عاطفة الأم الفطرية التي تعطي لأبنائها لا تريد منهم جزاء ولا شكورا.

والإسلام بحد ذاته إنما هو الاستسلام لله ولمشيئته والإحسان إلى البشر. وما العبودية في الإسلام سوى أن كل مسلم يجب أن يعتبر نفسه كالعبد المأمور من سيده لينفذ مشيئته وخطته في توفير متطلبات الحياة لبني البشر وإسعادهم.

أما المسيحية في الحقيقة، فهي قد قدمت نظرية جديدة بالفعل، وهي أن الله من أجل الإنسان، وليس الإنسان من أجل الإنسان، ولا من أجل الدين! فالله هو المسئول عن الخطيئة التي زرعها في طبيعتنا، وهذه مشكلته، ويجب أن يحل الموضوع بنفسه، فلذلك كان من واجبه أن يتجسد وينتحر ليحل هذه المشكلة على حسابه!

وهذه الفكرة لها أبعاد خطيرة جدا على نفسية الإنسان وعلى تشكيل ثقافته، فهي لن تجعل الإنسان بارا ولا محسنا، بل ستجعله يرى أنه يستحق الأفضل دائما، ولو على حساب أخيه الإنسان. فإذا كان الرب بنفسه قد ضحى من أجلي، فلماذا أضحي من أجل غيري؟ فأنا القيمة الأعظم في الكون!

لذلك لا عجب أن أدى اعتناق المسيحية في الأمم الأوروبية إلى أن تتمدد لنهب خيرات العالم وسرقة موارده، وتعبيد الناس لهم إلى يومنا هذا؛ حيث تنعم الدول الأوروبية برفاهية العيش على حساب الشعوب المقهورة التي تستخرج مواردها وترسلها إليهم مجبورة، ولا ينالون حتى الفتات، ابتداء من الكاكاو الذي يصنعون منه الشكولاته الفاخرة إلى الألماس والذهب والنفط وغيره، ثم بعد ذلك يغلقون الأبواب أمام هجرة اليائسين الذين يخاطرون بحياتهم ليصلوا إلى أوروبا لكي يحصلوا على أقل مقومات العيش الكريم! بينما كان الأولى أن يتركوا لهم خيراتهم ليعيشوا بكرامة في بلادهم. 

والواقع أن المحرك الأساسي للحروب يقوم بالأساس على فكرة نهب الثروات، ابتداء من الحروب الصليبية التي كانت برعاية الكنيسة الكاثوليكية إلى الحروب الحروب العالمية في عصرنا؛ حيث كان من أهم أهداف هتلر في غزوه لروسيا الوصول إلى منابع النفط في روسيا والدول المحيطة بها، إضافة إلى الاستيلاء على أراضي روسيا الشاسعة لصالح الشعب الألماني. ونهب الثروات كان سبب زرع إسرائيل في قلب العالم العربي، والعمل على إضعافه للأبد، وغزو العراق، بل وحتى الحرب في أوكرانيا مؤخرا؛ وقد تطور الأمر لدرجة استغلال الغربيين بعضهم بعضا، حيث تعاني أوروبا من الاستغلال الأمريكي الذي جعلها تقطع عن نفسها النفط والغاز الرخيص القريب وتشتري من أمريكا بأسعار تتجاوز الأربعة أضعاف، مما أثار بعض القادة الأوربيين. وهذه نتيجة طبيعية، لأنهم لا يرتبطون ببعضهم إلا برابطة النهب المشترك، وطبيعي أن يأكل القوي فيهم الضعيف بصورة أو بأخرى.

وفوق ذلك، فإن هذا الإله الذي ضحى بنفسه، لم يحظ بالاحترام والتوقير للأسف. فلا يوجد حسيب ولا رقيب على إهانة المسيح عليه السلام أو الاستهزاء به في وسائل الإعلام المختلفة -وهذا في الحقيقة ما تقتضيه نظرية أن الرب يضحي من أجلنا- بينما يمكن أن يُلقى أي شخص خلف القضبان لسنوات فيما لو تكلَّم حول المحرقة اليهودية. أما محرقة الفلسطينيين المستمرة منذ 70 عاما، فلا بواكي لها. ومن يمكن أن يرفع صوته سيتهم فورا بمعاداة السامية، مع أن العدد الأكبر من أبناء سام هم الذين يعادونهم ويقهرونهم ويغتصبون ثرواتهم! وهذا كله ليس احتراما لليهود أو اعترافا بمعاناتهم، ولكن ببساطة بسبب نفوذهم؛ لأنهم قد تسربوا إلى النظام وامتلكوا مفاصل الاقتصاد والإعلام، فلا بد لكل من يريد الحكم أو أن يبقى فيه أن يرضيهم، وهذا في النهاية لكي يتمكن بنفسه من السلب والنهب واستدامته، سواء لمصلحته الشخصية أو مصلحة دولته.

إن قيمة الإحسان، والإحسان غير المشروط، المبرأ من المصالح والمكاسب، لوجه الله تعالى واستسلاما له ولمشيئته ولخطته في إسعاد الخلق وتوفير المطالب الأساسية لهم، هي هدف الدين، والتي بينها الإسلام بكل وضوح. يقول تعالى:

{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 113)

فالإسلام يعتبر النقطة الأساس هي توفير المطالب الأساسية، ولكن لن يصل الإنسان إلى الهدف الحقيقي من الدين حتى يتمادى في الإحسان إلى إيتاء ذي القربى، الذي يعني أن الإنسان يجب أن يصل في إحسانه لبني البشر مرتبة تماثل الإحسان الفطري لذوي قرباه، وقمة هذا الإحسان هي إحسان الأم لأبنائها.

باختصار، الإسلام جاء ليؤكد على رسالة الأنبياء منذ بدء الخليقة وهي: الدين من أجل الإنسان لكي يصبح الإنسان في خدمة الإنسان. أما أن الله قد مات أو انتحر من أجل الإنسان، فلن يجعل هذا الإنسان محسنا، بل سيجعله مسرفا في هضم حقوق بني الإنسان. ولنا في سيرة الأمم الغربية مثال حي مستمر.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال